مقـــــــــــــــــــــــــــــــــــدمـــــــــــ ـــــــــــــــــة:
سئل أبو العلاء المعري ذات يوم عن أي من الثلاثة أشعر من غيره في الشعر فكان رده " أن المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر هو البحتري".
ولد البحتري بمدينة (منبج) شرقي حلب سنة 206هـ ، ونشأ في باديتها , في قبائل بني طيء , ورحل إلى العراق ليتكسب بشعره , فلم يلق حظوة فعاد إلى الشام خائبا حزينا ناقما. ولما مات الواثق وبويع المتوكل سنة 223هـ عاد البحتري إلى العراق واتصل بالفتح بن خاقان وزير المتوكل وبالمتوكل نفسه ونال منهما عطاء جزيلا لم ينله مثله عند من جاء بعدهما من الخلفاء. ولما قتلا رثاهما بقصيدة عصماء, وعاد بعد ذلك إلى منبج ولم يلبث إلا قليلا حتى عاد إلى العراق ومدح من الخلفاء المنتصر والمستعين والمعتز والمقتدر, ولكن لم ينل منهم ما كان يأمله من النعم فهجاهم هجاء قبيحا بعد أن خلعوا, كما هجا بعض الولاة والأمراء بعد أن مدحهم, ولذلك كان يرمى بقلة الوفاء.
عاد إلى الشام واعتزل في بلدة منبج حتى مات عن 78 عاما.
وكان على فضله وفصاحته من أبخل خلق الله ، وأكثرهم فخرًا بشعره ، حتى كان يقول إذا أعجبه شعرهُ أحسنْتُ والله، ويقول للمستمعين : ما لكم لا تقولون أحسنت ؟
وكان شعره كله بديع المعنى، حسن الدّيباجة، صقيل اللفظ، سلس الأسلوب، كأنهُ سيل ينحدر إلى الأسماع مجودًا في كل غرض سوى الهجاء ، ولذلك اعتبره كثير من أهل الأدب هو الشاعر الحقيقي، واعتبروا أمثال أبي تمام والمتنبي والمعري حكماء كما سبق عن المعري .من شعره في وصف الربيع :
أتاك الربيع الطـلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النوروز في غسق الضحى أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها بـــرد الندى فكأنما يبث حديثـــــا كان قبل مكتما
فمن شجــر رد الربيع لباسه عليه كما نشرت وشيا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشة وكان قذى للعين إذ كان محرما
العـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـرض :
تأثر البحتري كثيراً بشعر الكثير من الشعراء الكبار وعلى رأسهم أبو تمام الذي أخذ الكثير من أقواله، ولكنه لم يأخذ الحكمة في أغراض شعره ولا قام بصبغه بصبغة فلسفية، وقد اعتنى البحتري بانتقاء ألفاظه فتجنب المعقد منها والغريب، وقد كان من أفضل شعراء عصره في المدح لذلك حصد الكثير من الجوائز والعطايا من الخلفاء والملوك
ومما قاله ويدل على رقة طبعه وشاعريته:
أنَزَاعاً في الحُبّ بَعدَ نُزُوعِ، وَذَهَاباً في الغَيّ بَعْدَ رُجُوعِ
قَد أرَتْكَ الدّموعُ، يوْمَ تَوَلّتْ ظُعُنُ الحَيّ، مَا وَرَاءَ الدّمُوعِ
عَبَرَاتٌ مِلْءُ الجُفُونِ، مَرَتها حُرَقٌ في الفُؤادِِ مِلْءُ الضّلُوعِ
إنْ تَبِتْ وَادِعَ الضّمِيرِ فعِندي نَصَبُ مِنْ عَشِيّةِ التّوْديعِ
فُرْقَةٌ، لمْ تَدَعْ لعَيْنَيْ مُحِبٍّ مَنظَراً بالعَقيقِ، غيرَ الرّبُوعِ
وَهيَ العِيسُ، دَهرَها، في ارْتحالٍ مِنْ حلولٍ، أوْ فُرْقةٍ من جَميع
رُبَّ مَرتٍ مَرت ْتُجاذِبُ قُطْريهِ سَراباً كالْمَنْهلِ المْمَشرُوعِ
وَسُرًى تَنْتَحيهِ بالوَخْدِ، حتّى تَصْدَعَ اللّيلَ عَن بَياضِ الصّديعِ
كالبُرَى في البُرَى، وَيُحسَبنَ أحيا ناً نُسُوعاً مَجدولَةً في النّسوعِ
أبْلَغَتْنَا مُحَمّداً، فَحَمِدْنَا حُسنَ ذاكَ المَرْئيّ وَالمَسموعِ
في الجَنابِ المُخضَرّ وَالخُلُقِ السّكْـ ـبِ الشّآبيبِ، وَالفِناءِ الوَسيعِ
مِنْ فتًى، يَبتَدي، فيَكثُرُ تَبديـ ـدُ العَطايا في وَفْرِهِ المَجْمُوعِ
كلَّ يَوْمٍ يَسُنُّ مَجداً جَديداً، بفَعالٍ، في المَكرُماتِ، بَديعِ
أدَبٌ لمْ تُصِبْهُ ظُلْمَةُ جَهْلٍ، فهوَ كالشّمسِ عندَ وَقتِ الطّلوعِ
وَيَدٌ، لا يَزَالُ يَصرَعُها الجُو دُ، وَرَأيٌ في الخَطبِ غيرُ صرِيعِ
باتَ مِنْ دونِ عِرْضِهِ، فحَماهُ خَلْفَ سُورٍ منَ السّماحِ مَنيعِ
وَإذا سَابَقَ الجِيَادَ إلى المَجْـ ـدِ، فَما البرْقُ خَلفَهُ بسَرِيعِ
وَمَتى مَدّ كَفَّهُ نَالَ أقْصَى ذلكَ السّؤدَدِ البَعيدِ، الشَّسوعِ
أُسْوَةٌ للصّديقِ تَدْنُو إلَيْهِ عَن مَحَلٍّ في النَّيلِ، عالٍ رَفيعِ
وَإذا مَا الشّرِيفُ لَمْ يَتَوَاضَعْ للأخِلاّءِ، فهوعَينَ الوَضِيعِ
يَا أبَا جَعْفَرٍ! عَدِمْتُ نَوَالاً لَسْتَ فيهِ مُشَفّعي، أوْ شَفيعي
أنتَ أعْزَزْتَني، وَرُبّ زَمَانٍ، طالَ فيهِ بَينَ اللّئَامِ خُضُوعي
لمْ تُضِعْني لَمّا أضَاعَنيَ الدّهْـ ـرُ، وَلَيسَ المُضَاعُ إلاّ مُضِيعي
وَرِجالٍ جارَوْا خَلائِقَكَ الغُرّ وَلَيْسَتْ يَلامِقٌ مِنْ دُرُوعِ
وَلَيالي الخَرِيفِ خُضْرٌ، وَلكِنْ رَغّبَتْنَا عَنْهَا لَيالي الرّبيعِ
فأنت- إذا نظرت إلى أبي تمام تجد الفحولة والجزالة والقوة، وترى المعاني الدقاق وترى الصنعة- من الجناس والمطابقة وما إليهما- وترى- مع ذلك كله- التعبير الشعري: أي ترى النصاعة والإشراق، ووضوح المعالم، واطراد النظام، وتساوق الأغراض، وإحكام الأداء، والروعة، والجمال، والروح القوي الذي يطالعك من بين فِقرَه، ومن هنا يفضل أبو تمام: أبا الطيب.
قال ابن الأثير: وهؤلاء الثلاثة- أبو تمام، والبحتري، والمتنبي- هم لات الشعر، وعُزَّاه، ومناتُه، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء؛ وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء.
أما أبو تمام: فإنه رب معان، وصيقل الباب وأذهان، وقد شُهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برّز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير، فن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه، أطاعته أَعِنّةَُ الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام، فخذ مِنَى في ذلك قول حكيم، وتعَّلمْ، ففوق كل ذي علم عليم.
كان أبوتمام يتعمق الاعتزال وعلم الكلام بل يظهر أنه مد تعمقه إلى الفلسفة وما يتصل بها من المنطق ،وقد ألمح إلى ذلك الآمدي في كتابه الموازنة فقال إن شعره إنما يعجب به أصحاب الفلسفة وتتراءى ألفاظها عنده من حين إلى حين كقوله في هجاء بعض خصومه
هب من له شيء يريد حجابه*** مابال لاشيء عليه حجاب
وكلمة لاشيء في اصطلاح المتفلسفة تعني العدم.
ومن ذلك قوله:
لن ينال العلا خصوصا من الفت ـيان من لم يكن نداه عموما
والعموم والخصوص من كلام المناطقة.
ومن ذلك قوله في أحد ممدوحيه:
صاغهم ذو الجلال من جوهر المجـ ـد وصاغ الأنام من عرضه
والجوهر عند الفلاسفة والمتكلمين أعم من العرض.
ومن مظاهر تعمقه في الفلسفة ومذاهب المتكلمين نشره في معانيه الأضداد المتنافرة نشرايدخل البهجة على النفس بما يصور من تعانقها في الحياة ،تصويرا يدل على عمق غوره في الإحساس بحقائق الكون ،وبترابط جواهرها ، حتى الجواهر التي تبدو متضادة فإن بعضها ينشأ من بعض ويلتقي لقاء وثيقا على شاكلة قوله :
رب خفض تحت السرى وغناء ***من عناء ونضرة من شحوب
وجعلته صلته بالمنطق والفلسفة يكثر من استخدام الأدلة المنطقية وهي عنده تستمد من نفس إحساسه العميق بتشابك حقائق الكون ،فإذا بعضها يرى من خلال بعض ،بل إذابعضها يتخذ حجة ودليلا على بعض من مثل قوله لمن عذلته على ضيق ذات اليد:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى***فالسيل حرب للمكان العالي
وقوله في تحبيب الرحلة عن الأوطان:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ***لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة**إلىالناس أن ليست عليهم بسرمد
ويتسع التأثر بالفلسفة عنده حتى ليشيع الغموض في كثير من أبياته ،حتى قالوا إنه أفسد الشعر وهو لم يفسده بل هيأ له ازدهارا رائعا تسنده فيه ثقافة واسعة بالفلسفة والمنطق وبالشعر العربي قديمه وحديثه.
وأما أبو عبادة البحتري: فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري. ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأما أبو الطيب المتنبي: فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولا لست فيه متأثما، ولا منه متلثما: وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله السامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه، ولاشك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه، ما أدى إليه عِيانه، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء ومهما وُصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تَطلبنًّ كرِيما بَعد رُؤيَتهِ إن الكِرَامَ بأسخَاهُمْ يَداً خَتِموُا
وَلا تُباَل بِشعرٍ بعد شاَعِرِهِ قد أفْسِدَ القولُ حتى أْحْمِدَ الصَّمَمُ
ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقساماً خمسة: خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره؛ وخمس من متوسط الشعر؛ وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعُبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب وقاه اللّه شرها؛ فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلت عِرضه غرضًا لسهام الأقوام" ا هـ كلام ابن الأثير.
وقد آن لنا أن نقول: إن هذا الذي يعاب على أبي الطيب ويظُن أنه يَتَخَوّنه ويَشِينه: هو على الحقيقة سر من أسرار شاعريته لأن مرجعه التوليد الذي لا يؤتاه إلا الشاعر المطلق.. فالكلام إنما هو من الكلام وإنما يستحق الشاعر هذا اللقب بالتوليد، وبطريقته في التوليد تقوم طريقته في الشعر؛ فمن ثم يختلف الشعراء ويمتازْ واحد من واحد وتَبينُ طَرِيقة منْ طريقة وإن تواردوا جميعا على معنى واحد يأخذه الآخر منهم عن الأول
وإني لأذكر كلمة لأحد نقدة العرب وهي: إنما حبيب أبو تمام كالقاضي العدل: يضع الفظ موضعها، ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر، والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع: يتحرى في كلامه، و يتحرج خوفًا على دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار: يأخذ ما حوله قهراً وعَنوة؛ كالشجاع الجريء: يهجم ما يريده، ولا يبالي ما لقي ولا حيث وقع.
الخاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــة
المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري . لأن المتنبي وأبا تمام يأتيان بالحكمة في كلامهما، كقول المتنبي :
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
أي: أن الرأي قبل الشجاعة، وهذه حكمة طيبة، وكثير من شعر أبي تمام حكم، كقوله:
أما والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
فيقول أبو العلاء : إن الشاعر هو البحتري ، أما المتنبي وأبو تمام فهما حكيمان، يأتيان بحكم تقبلها العقول، لكن الشاعر هو البحتري الذي يعبر عن مشاعر النفس، وعن أمور ليست مجرد كلام عقلي تقبله العقول، فـالبحتري شاعر لا يخاطب العقل فحسب، وإنما يخاطب الوجدان والشعور.